.. إذا أصبح تحقيق الربح هدفاً وحيداً لما يمكن أن نسميه بــ «الإعلام الجديد»، أو «الإعلام الفضائي»، فلا عجب أن تتحول الرسالة إلى تجارة، عبر مواد تُحْدثُ دوياً لجذب جمهور المشاهدين، ولا تصيب هدفاً إلا ما يملأ جيوب أصحاب الفضائيات من جيوب المشاهدين المُغرر بهم.
لقد امتطى الإعلامُ الجديد ظهرَ الفضاءِ، في ظل ثورة هائلة في مجالي المعلومات والاتصالات، فصَالَ وجَالَ بلا حدود أو قيود، وتكاثرت فضائياته كتكاثر الجراد، حتى أضحى من اليسير على المشاهد العادي أن يتجول في أرجاء العالم - بحرية تامة - وهو جالس في مكانه يحتسي بعض أكواب الشاي، بينما تكبس يده الأخرى بعض أزرار تنقله فوراً بين فضائيات لا تحصى ولا تعد!.
في هذا البحر اللجي، انطمست معالم الرسالة الإعلامية الهادفة، من حيث كونها مشروعاً تنويراً، تثقيفياً، توعوياً، وذلك حين رَحَلَتْ عن ساحة الإعلام الفضائي ”العقلية المهنية“، وحَلَّتْ محلها ”العقلية التجارية“، اعتقاداً بأن نجاح المؤسسة الإعلامية يكمن فيما تحققه من أرباح مادية، ولذا ركض أصحابها بلا توقف نحو الربح السريع، ولو دهسوا وهم يركضون قيم وأخلاق المجتمع، زاعمين أن ”السطحيات“ أو”التفاهات“ سلع إعلامية مطلوبة من جمهور المشاهدين!.
إنّ الأمر لا يحتاج إلى كثير من التأمل لنَخْلُصَ إلى أن كثيراً من فضائياتنا الميمونة قد تجاوزت باجتراء مبادئ العمل الإعلامي المسؤول، الذي يحافظ على هوية الأمة، وثوابتها، ومعتقداتها، لتقدم فصولاً من مواد عبثية، لا تمت للرسالة الإعلامية بأي صلة..!.
• من قال إن رسالة الإعلام الفضائي هي التسويق لمستحضرات التجميل والتخسيس، أو الدعاية للأدوات المنزلية والأجهزة الكهربائية؟!.
• من قال إن رسالة الإعلام الفضائي هي التخصص في أعمال السحر والشعوذة وقراءة الكف ومعرفة الحظ بالورق؟!.
• من قال إن رسالة الإعلام الفضائي هي فتح نوافذ للغزل، وتبادل كلمات الغرام، على الهواء مباشرة؟!.
• من قال إن رسالة الإعلام الفضائي هي طلب الربح السهل باستنزاف أرصدة المشاهدين عن طريق الرسائل القصيرة SMS))؟!.
• من قال إن رسالة الإعلام الفضائي هي نشر ثقافة الاستهلاك والترويج لحياة الراحة والكسل؟!.
• من قال إن رسالة الإعلام الفضائي هي عرض أغاني الفيديو كليب، وعرض البرامج والدراما التي تخدش الفضيلة و تجرح الحياء العام؟!.
• من قال إن رسالة الإعلام الفضائي هي تفسير الأحلام، ومعالجة المرضى، وإصدار الفتاوى على الهواء؟!.
إنّ كثيراً من الشباب قد غيَّروا أنماط حياتهم تأثراً بما تقدمه هذه الفضائيات من مواد، فمنهم من غيَّر من طريقة كلامه ولغة اتصاله بالمجتمع، ومنهم من غيَّر من عادات نومه ومواعيد تناول طعامه وشرابه، ومنهم من غيَّر طريقة لباسه وقصة وتسريحة شعره، وما تبع ذلك من تبذير وإنفاق وشراهة في الاستهلاك، إضافة لما تمارسه مواد الفضائيات المعنية من تأثيرات سلبية على القيم والأخلاق، والموروثات الفكرية والثقافة لهذه الشريحة الهامة في المجتمع. لقد لاقت المواد الترفيهية السطحية العبثية إقبالاً متزايداً من المشاهدين، خاصة من فئة الشباب والمراهقين، ولك أن تتصور ما تعكسه أغاني ”الفيديو كليب“ وبعض البرامج من صور خليعة ومبتذلة، غايتها الإثارة وتحريك كوامن الغريزة، مستهدفة شباب غض مملوء بالحيوية والطاقة، لتطمس هويته، وتبدد طاقته، وتدمر دينه.
للأسف، لقد بات إعلامنا الفضائي سوقاً مفتوحة لكل السلع صالحها وفاسدها، ثمينها وغثها، بل وأضحت بضائع الغير تمر بلا فحص، وتُعرض بلا رقيب، وكأن إعلامنا الفضائي يريد أن يثبت لأهل السبق أنه إعلام متحرر، ومنفتح على الغير، وليس لديه تشدد أو تعصب، وهذا خطأ كبير وجسيم، إذ ليس معنى التكامل بين الشعوب والثقافات لخلق أطر مشتركة للتفاهم والتعايش، أن أنزع ذاتي من جذورها، وأن أطمس معالم هويتي، وأن أنسى تراثي وحضارتي، ثم أدور في فلك الغير، ظناً بأن الغير سوف يسعده ذلك، وهو ظن هش وبائر، فمن لا يقدر أن يحترم نفسه.. لن يحترمه غيره!.
إننا أمام نمط إعلامي يجب أن يتغير، ليعبر عن شخصيتنا ومعتقداتنا وثقافتنا وتقاليدنا، ليعرض قضايانا ويناقش مشكلاتنا، ليبني وعياً ويرسخ انتماءً وينشئ فكراً، بما يتفق وميول واحتياجات وثقافة الإنسان العربي. لقد أثبتت التجربة مدي فاعلية وتأثير وسائل الإعلام على توجهات وسلوك الجماهير، وهنا يمكن للإعلام أن يقوم بدور مؤثر في إعادة بناء أفراد المجتمع بما يجعلهم قادرين على التصدي لمسؤولياتِ عصرهم، وبما يجعلهم مؤهلين لتحقيق آمالهم وأهدافهم في الحياة.
نسأل الله التوفيق لعمل الخير.