الفاعلُ، مرفوعٌ دائماً، و القادومُ يُمثله، مع فارق بسيط وهو: أن الفاعل يُرفع بالضمة، و القادومُ يُرفع باليَدِّ، وأما المفعولُ به، فمنصوبٌ دائماً، والمسمار يمثله، مع فارق بسيط وهو أن المفعولَ به يُنْصَبُ بالفتحة، والمسمار يُنْصَبُ بالطرق!.
هذا، والفاعلُ يتقدمُ على المفعول به، وكذا القادومُ يتقدمُ على المسمار، أي أن الفاعل، وهو: «القادوم» يُعَدُّ مرسلاً، والمفعول به، وهو: «المسمار» يُعَدُّ مستقبلاً، وبذا فالثاني يتأثر دائماً «بطرق» الأول، وما عليه إلا أن يستجيبَ ويَمُر، ليرحم الرأس من عناء الطرق!.
والناس - في الحقيقة - ينقسمون إما إلى قوادم طارقة، أو إلي مسامير مطروقة، وإن مَالَ أغلبهم إلى القسم الأول، لأنه الجانب الآمر، والنفس - بطبيعتها - تعشق الإمارة والسلطة، ويظل الوصول إلى أحد بؤرها المنيعة حلماً يراود جل النفوس على اختلاف مراتبها، وإن تباينت الأهداف، وتعددت سبل الوصول، وذلك طلباً للنفوذ، والقوة، والشهرة، والمَنْعَة!.
في عوالم ما دون عالم البشر، تقول القوة كلمتها، فالأقوى يبقي ويسود، أي تضعه القوة في خانة القادوم، أي الفاعل أو الطارق، ويبقي كذلك ما دام هو الأقوى، فإذا دارت الأيام دورتها وتراجعت القوة تحت مقصلة الزمن، تراجع تلقائياً إلى خانة المسمار، أي المفعول به، أو المطروق، وهكذا يبقى قانون القوة هو المعيار الأوحد الذي تتحدد على ضوئه مناطق النفوذ في عالم الغابة، وما شاكله من عوالم.
قبل أن يعرف الإنسان الحضارة، وقت أن كان يحيا في الكهوف، وفي فترات اندثار النظم والقوانين، وعلوّ صوت الهمجية والتخلف، تبني البشر قانون الغاب، فتسيدهم أقواهم وأشرسهم، وليس بالضرورة أفضلهم وأقومهم، إذ كانت تتواري كل معالم الإنسانية الراشدة، التي تدعو إلى إعمال العقل والمنطق والنظام في تلك المحطات المُظلمة، وتصبح لغة القهر والبطش هي العملة المتداولة والسائدة، على نحو يجعل قوة البدن آمرة لقوة العقل ومهيمنة عليها!.
تلك الفكرة تبدلت حين أضحي للبشر منهجاً أو قانوناً أو نظاماً يحتكمون إليه في شئون حياتهم، فراحوا يأمِّرون أذكاهم عقلاً، وأقواهم حجة، وأصوبهم رأياً، وأرجحهم منطقاً، كي يكون قائداً لهم، وواجهة تمثلهم حين يتفاوضون أو يعرضون منطقهم على الغير.. ذلك يحدث على مستويات متعددة، رسمية، وغير رسمية، تبدأ بالأسرة وتنتهي بالدولة، ويمضي الأمر في سياقه الطبيعي والمنطقي ما دام هنالك نظاماً شفافاً يفرز ويغربل ويدفع الأفضل إلى مقدمة الصفوف.
لكن شهوة السُلطة تجعل بعض البشر يسقطون من حين لآخر في أوحال التحايل والالتفاف حول النظم من أجل سرقة بعض أضواء السلطة، أو التقاط بعض نفوذها بغير وجه حق، إما بالتملق، أو النفاق، أو الرشوة، أو الوساطة، أو باستعمال الأنفاق الخفية والأبواب الخلفية، وهنا يختل ميزان العدل بين الكفاءة وبين المنصب، وتقع الطامة بارتفاع الأنصاف وانخفاض الأكفاء.. قال النبي "صلى الله عليه وسلم": «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة»، وقال أيضاً: «لا تسأل الإمارة، فإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها».
إن أسوأ ما يواجه أي مجتمع على الإطلاق أن يُحرم من مُبدعيه ومَوهوبيه، لأن الكفاءة لم تعد كافية أو شافعة كي يتبوأ صاحبها المكانة التي يستحق، وذلك حين يتم الزج بعناصر تتفق مع الأهواء في مسألة تقييم الكفاءات، بحيث تتواري الموضوعية عن ساحة التقييم، ولا يبدو منها غير اسمها لإسبال الشرعية على موضوعها أمام الرأي العام، والمجتمع هو من يدفع في النهاية فاتورة «وضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب».
وحتى يكون الكلام اقتصادياً لا إنشائياً، لا بد من ذكر بعض الآثار السلبية الناجمة عن اختلال الميزان بين الكفاءة والمنصب أو المهنة أو الوظيفة، في النقاط التالية:-
(1) تفشي الفساد المالي والإداري في الكيانات الاقتصادية من الداخل، الأمر الذي ينخر عمودها الفقري، ويهددها بالشلل والانهيار في أي لحظة.
(2) توظيف الاستثمار في العنصر البشري نحو الاتجاه الخطأ، لأنه استثمار يتم على شخص غير ذي كفاءة، أو غير ذي موهبة في المجال.
(3) سوء استخدام الموارد المتاحة، بل وإهدارها في كثير من الأحيان.
(4) ضعف مستوي الإنتاج من حيث الكيف، وتدني مستوي الدخل.
(5) إضعاف فعالية القرارات والسياسات الاقتصادية.
(6) خلق احتمالات متزايدة للجريمة المنظمة.
ديننا منع المُجاملات ولو كانت للمقربين، وولي في المناصب الأكفاء لها، فهذا أبو ذر الغفاري، الصحابي الجليل، راوي الحديث، قال: قلت: «يا رسول الله ألا تستعملني؟» فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خِزيٌ و ندامة، إلا من أخذها بحقها و أدّى الذي عليه فيها»، ولم يكن ذلك لمواقف شخصية، ولكن كان إنصافاً للحق الذي أولى بالإتباع.
إن تحويل المطرقة إلى مسمار، أو المسمار إلى مطرقة، هو توظيف للأشياء ضد طبيعتها وضد تكوينها وضد ما خلقت له، فأني لمن تحول عن طبيعته أن يؤدي؟!.
وبعد، فيا عزيزي القارئ.. أيهما تختار؟!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق