تحدث إليَّ ودموع الأسى تنثالُ من عينيه، فقال: مات أبي فجأة وترك مسؤولية تربيتي وثلاثة من إخوتي إلى أمي بنتُ الثامنة والعشرين، التي لم تكن تعرف من الحياة إلا إدارة البيت.. تنظيفاً للمكان وطهياً للطعام!.
ولأن أمي قد نَبتت من أصل طاهر طيب قررتْ أنْ تقطع صلتها بكل ما تشتهيه من متاع الدنيا، وأن تجعل من ذلك طاقة تدفعها نحو ما ألزمت نفسها به أمام ربها، من تربيتنا على المبادئ والأخلاق والضمير، متحرية سُبل الحلال، شامخة في الميدان بقوة الرجال!.
رحَل أبي عن الحياة وتركَ لنا هكتارين إلا قليلاً من أرضٍ زراعية تناثرت في ثلاثة أماكن متباعدة، وكان لِزاماً أنْ تجد الأرض من يرعاها، ولم يكنْ أمام أمي إلا أن تفعل وأكبر أبنائها لم يتجاوز السابعة من عمره، في وقت عَزَّ فيه السند من قريب أو بعيد!.
لقد رأيتُ أمي تضربُ بالفأس، وتحرثُ الأرض، وتحلبُ الضرع، وتحمل فوق الظهر والرأس، مرددة وهي تفعل كلام الله وأسمائه الحسنى لتستمدَ من خالقها القدرة والصبر والحكمة.. كان الحرُّ قاسياً يَجْلِدُ الظهر بسياطه، والأرض صلبة تلوي حدَّ الفأس، ولكن عون الله مضى في عروق أمي فأخرج منها إرادة أقوى من الحرِّ والحديد، ومن عنفوان الأرض!.
كانتْ أمي تغرس في الحقل زرعاً عليه نعيش، وتغرس في ضمائرنا قيماً عليها نحياها، وكلما انتفش الزرع في الحقل وتفرع، وكلما انتفش الأولاد في الحياة وتقدموا، كانت ترتسم علامات السعادة على وجه أمي فتكسوه بشراً، وعلامات الرضا تنداح بين يدي خالقها شكراً!.
ومضت الأيام على تلك الوتيرة الحميدة، زروع تزهر وتثمر، وأبدان تنمو، وعقول تتوقد، وقلوب بالإيمان تصعد، وضمائر بخشية الله تعمل.. كانت منظومة قدرها القادر سبحانه لأمي الضعيفة في المبنى، القوية في الإرادة والإيمان، لتقود السفينة في هذا اليمِّ الخضمِّ، قائمة بدور الأب باقتدار، وبدور الأم بمهارة، حتى تخرَّجنا جميعاً من جامعة الحياة رجالاً أقوياء نعرف الله، ونساء كريمات متحليات بشرع الله، إضافة إلى شهادات علمية اجتزناها ببراعة من جامعات علمية متعددة.
الآن وقد تزوجنا وبالأولاد رُزقنا، ولنا وظائفنا التي نعمل فيها.. فلله الفضل والمنة، ولأمي الجليلة آيات الحب والوفاء.. الآن نواجه معضلة لم نشعرْ بها وقت أن كنَّا طيوراً خُضراً تحت جناحي أمي، فلما نضجت أجنحتنا وطرنا، عصفت بنا المعضلة الآتية :
لقد نسجت أمي - عبر تربيتها الدءوبة - في لحومنا وعظامنا وخلايانا معنى كلمة حق، وضمير، وإتقان، واجتهاد.. الخ، وهي معانٍ لا نقدر على التخلي عنها لأنها جزء من تركيبتنا الثقافية والفكرية والسلوكية، بل والبدنية.. نقول الحق الذي تعلمناه فينزوي عنا المحيطون، نتحرى الإتقان فيسخر منا الآخرون.. يقولون أنتم متطرفون وفيما تقومون به ممعنون مملون، فالعصر يتطلب قسطاً من المرونة، وشيئاً من التكيف.. أنتم عنه معرضون!
قلي بالله عليك ماذا نفعل؟ وهل العيب فينا، أم في التي قامت بتربيتنا؟.
نحن لا نستطيع أن نتغير أو نتكيف، لأن أخلاقنا لا تستقيم مع المنطقة الرمادية التي جذبت معظم البشر.. فليس للصدق، والحق، والعدل عندنا إلا وجه واحد.. وهم يريدون عدة وجوه!.
وبعد، لقد كان بوسعي أن أقول لهذا المكلوم إجابات كثيرة، ولكني توقفت.. لأني أشعر مثله بالمرارة!.
قلت له.. تعالى لنتريض على شاطئ النيل قليلاًً !
http://www.aleqt.com/2012/02/18/article_627737.html
ولأن أمي قد نَبتت من أصل طاهر طيب قررتْ أنْ تقطع صلتها بكل ما تشتهيه من متاع الدنيا، وأن تجعل من ذلك طاقة تدفعها نحو ما ألزمت نفسها به أمام ربها، من تربيتنا على المبادئ والأخلاق والضمير، متحرية سُبل الحلال، شامخة في الميدان بقوة الرجال!.
رحَل أبي عن الحياة وتركَ لنا هكتارين إلا قليلاً من أرضٍ زراعية تناثرت في ثلاثة أماكن متباعدة، وكان لِزاماً أنْ تجد الأرض من يرعاها، ولم يكنْ أمام أمي إلا أن تفعل وأكبر أبنائها لم يتجاوز السابعة من عمره، في وقت عَزَّ فيه السند من قريب أو بعيد!.
لقد رأيتُ أمي تضربُ بالفأس، وتحرثُ الأرض، وتحلبُ الضرع، وتحمل فوق الظهر والرأس، مرددة وهي تفعل كلام الله وأسمائه الحسنى لتستمدَ من خالقها القدرة والصبر والحكمة.. كان الحرُّ قاسياً يَجْلِدُ الظهر بسياطه، والأرض صلبة تلوي حدَّ الفأس، ولكن عون الله مضى في عروق أمي فأخرج منها إرادة أقوى من الحرِّ والحديد، ومن عنفوان الأرض!.
كانتْ أمي تغرس في الحقل زرعاً عليه نعيش، وتغرس في ضمائرنا قيماً عليها نحياها، وكلما انتفش الزرع في الحقل وتفرع، وكلما انتفش الأولاد في الحياة وتقدموا، كانت ترتسم علامات السعادة على وجه أمي فتكسوه بشراً، وعلامات الرضا تنداح بين يدي خالقها شكراً!.
ومضت الأيام على تلك الوتيرة الحميدة، زروع تزهر وتثمر، وأبدان تنمو، وعقول تتوقد، وقلوب بالإيمان تصعد، وضمائر بخشية الله تعمل.. كانت منظومة قدرها القادر سبحانه لأمي الضعيفة في المبنى، القوية في الإرادة والإيمان، لتقود السفينة في هذا اليمِّ الخضمِّ، قائمة بدور الأب باقتدار، وبدور الأم بمهارة، حتى تخرَّجنا جميعاً من جامعة الحياة رجالاً أقوياء نعرف الله، ونساء كريمات متحليات بشرع الله، إضافة إلى شهادات علمية اجتزناها ببراعة من جامعات علمية متعددة.
الآن وقد تزوجنا وبالأولاد رُزقنا، ولنا وظائفنا التي نعمل فيها.. فلله الفضل والمنة، ولأمي الجليلة آيات الحب والوفاء.. الآن نواجه معضلة لم نشعرْ بها وقت أن كنَّا طيوراً خُضراً تحت جناحي أمي، فلما نضجت أجنحتنا وطرنا، عصفت بنا المعضلة الآتية :
لقد نسجت أمي - عبر تربيتها الدءوبة - في لحومنا وعظامنا وخلايانا معنى كلمة حق، وضمير، وإتقان، واجتهاد.. الخ، وهي معانٍ لا نقدر على التخلي عنها لأنها جزء من تركيبتنا الثقافية والفكرية والسلوكية، بل والبدنية.. نقول الحق الذي تعلمناه فينزوي عنا المحيطون، نتحرى الإتقان فيسخر منا الآخرون.. يقولون أنتم متطرفون وفيما تقومون به ممعنون مملون، فالعصر يتطلب قسطاً من المرونة، وشيئاً من التكيف.. أنتم عنه معرضون!
قلي بالله عليك ماذا نفعل؟ وهل العيب فينا، أم في التي قامت بتربيتنا؟.
نحن لا نستطيع أن نتغير أو نتكيف، لأن أخلاقنا لا تستقيم مع المنطقة الرمادية التي جذبت معظم البشر.. فليس للصدق، والحق، والعدل عندنا إلا وجه واحد.. وهم يريدون عدة وجوه!.
وبعد، لقد كان بوسعي أن أقول لهذا المكلوم إجابات كثيرة، ولكني توقفت.. لأني أشعر مثله بالمرارة!.
قلت له.. تعالى لنتريض على شاطئ النيل قليلاًً !
http://www.aleqt.com/2012/02/18/article_627737.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق