09/02/2011 | عبد القادر مصطفى
الأصل أن يُحسن الناس الظن ببعضهم البعض حتى يثبت العكس، وليس من المنطق أن نحاسب الناس على نواياهم لأنه لا يعلم خفايا الصدور إلا العليم بذات الصدور جل في علاه، إذ علمنا ديننا الحنيف أن نحكم على الناس بظواهرهم أما البواطن فلا شأن لنا بها، فلا إطلاع لنا عليها ولا محاسبة لنا عما يجول بها، وهذه حكمة دينية بالغة حتى يحيا المجتمع في حب ووئام وترابط بعيداً عن التشنجات والعصبيات والعداوات، قال رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان )، والشاهد أنه لا شأن لأحد إن كان هذا المعتاد يصلى رياء أو نفاقاً ، أو إخلاصاً .
فليست مهمة الناس التفتيش على مكنونات صدور بعضهم البعض، لكن ورغم ذلك فإنه يمكن استجلاء ما يدور بخاطر إنسان ما.. متى تكلم، لأن المرء - كما يقولون - مختبئ تحت لسانه فإذا تكلم ظهر، وهنا يتجلى دور الفراسة والقدرة على تحليل مقاصد الحديث ومراميه مع مراعاة عدم تحميل الكلمة بأكثر مما تحتمل من مغزى ومعنى، كي لا تتسع دائرة الشكوك ويزداد مجال التخمين طولاً وعرضا وعمقاً، خاصة إن كانت قراءة خفايا الكلام سوف يترتب عليها اتخاذ قرار يتصل بمصلحة شخص أو مجموعة أشخاص، ولذلك كان البحث بعناية واهتمام ودقة عن مضامين حديث المتحدثين حين يتحدثون من الأهمية والضرورة بمكان حتى لا تنزلق أفهامٌ نحو سوء استخلاصٍ أو سوء استنتاج .
فعندما يأخذك عقلك في رحلة تفقدية للبحث في المعاني المحتملة والدلالات المختبئة وراء كل كلمة ينطق بها المتكلم إما تصريحاً فيذهب العقل إلى هنالك للبحث في معانيها وفى دلالاتها متخذاً من طريقة إلقائها، ومن السياق الذي جرت في حدوده، ومن الظروف التي حكمت إخراجها، محددات رئيسة مرشدة لا يخرج عنها استنباط ٌلمعنى أو استنتاجٌ لدلالة.. هذا إن قِيلت الكلمة على نحو صريح واضح لا يقبل اللبس أو التأويل.
أما إن قيلت الكلمة تلميحاً عبر الإشارات الجسدية التي تصدر عن المتكلم عن قصد أو عن غير قصد فهنا يأتي دور العبقرية والفراسة في قراءة أفكار الغير، وهى الموهبة التي تسكن عقول أناس بعينهم دون سواهم، تمكنهم من ترجمة هذه الحركات إلى كلمات منتظمة ومقبولة يحتملها الموقف الذي سيقت فيه من ناحية، ثم يأتي من بعد ذلك دور البحث فيما تدل عليه هذه الكلمات أو تشي إليه من ناحية أخرى ، فربما تفصح هذه الإشارات - أحياناً - عن بعض الحقائق المعلومات التي يريد المتحدث أن يعبر عنها إيحاءً، أو يريد أن يخفيها عبر التورية أو الكناية أو تغيير مجرى الحديث بذكاء نحو خط آخر، وهنا يتطلب الأمر غوصاً ماهراً لقراءة ما ينْداح بين السطور من كلمات غير معلنة أو غير مرئية وما تعلن عنه الإشارات الصادرة من حقائق كامنة حجبها خجل الحديث، أو ظروف الحديث، أو ذكاء الحديث، والأمر وقتئذٍ يستلزم التأني والتمهل والتريث في النظر والتحليل قبل وأثناء وبعد كلام المتكلم للوقوف بصدق على المعلومات المؤكدة والحقائق الثابتة التي لا تحتمل الجدل ولا الإنكار و التي انسابت من أطراف الحديث الذي قد يكون مقالاً أو حواراً أو كلمة أو مناظرة أو ما شابه ذلك من صنوف المداولات الكلامية وما أكثرها في واقعنا المعاصر.
وليس عيباً ولا قصوراً ألا يخرج المحاور أو المناقش أو الصحفي بأية معلومات مباشرة أو غير مباشرة من بين ثنايا الحديث، فليس من الضروري أن يحدث سبق صحفي أو إعلامي على حساب الحق والحقيقة، ولكن العيب كل العيب في رصد استنتاجات واستنباط معلومات غير حقيقية من كلام المتكلم أو تفسير كلام المتكلم على نحو مائل أو أعوج بحثاً عن ذلة أو هفوة أو سقطة تكون مطية للتشهير أو التشفي، أو ما شاكل ذلك، وما أكثر الصور المؤسفة التي برزت في وسائل إعلام مقروءة أو مرئية أو مسموعة يسعى مالكوها إلى الشهرة والكسب السريع أو التشفي عبر سرد العناوين البراقة عن أناس تقع عليهم دائرة الضوء وما تحمله هذه العناوين في طياتها من مفردات البهتان ومجافاة الحقيقة .
وما أكثر الشائعات التي تم التسويق لها عبر الصحف الصفراء وما وازاها من وسائل إعلام أخرى عن رجال دين، أو سياسة، أو رياضة، أو فن، أو غيرهم، نسبت إليهم ما لم يقولوه وألصقت بهم ما لم يفعلوه، ثم بعد أن تقوم الدنيا و لا تقعد يتضح زيف ما أشيع هنا أو هناك تحت مسمى السبق الصحفي أو خلافه.
لقد نشأت مشاكل وتاهت حقائق ( فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ..)، ومن ثم فقد توافر المناخ المناسب والتربة الملائمة لنثر بذور الشقاق والخلاف وما أن ينزل عليها ماء الإعلان عن السبق الخطير حتى تنمو هذه البذور الشيطانية نمواً خطيراً يحجب عن الجميع ضوء البصر البصيرة، ولا يلبث كل طرف أن يخرج كل أسحلته من أجل إثبات صحة موقفه، وحسن نواياه، وهكذا تضيع الأوقات وتهدر الطاقات وتقع الخلافات التي لا طائل من ورائها، وينشغل الناس بسفاسف الأمور ويتركون عظائمها.
والملاحظ أن دائرة هذا الظاهرة تتسع يوماً بعد يوم داخل مجتمعاتنا العربية بلا مبرر أو ضرورة مقبولة، ويبدو الأمر وكأنه خطة محكمة تسعى إلى جر هذه المجتمعات إلى دوامات مصطنعة من التناحر والشقاق ليس منها فواق، ولا يخفى على كل ذي عقل أو قلب أنه إن تاهت الحقيقة من البداية في غابة الشقاق المزمن فلسوف ترتكب المهازل تلو المهازل بدعوى إرجاع الحق إلى أصحابه.
إن القفز على الحقائق باستباق تحليلات متسرعة وغير مدروسة أو مؤكدة كلف المجتمعات العربية كثيراً من أوقاتها وطاقاتها وثرواتها، تارة في الجدل و المراء العقيم الذي لا طائل من ورائه، وتارة في علاج ما ترتب من آثار على سوء التفسير والتأويل، وكان ذلك بمثابة الحجر الصغير الذي ألقى في نهر كبير فأوجد أكثر من دوامة للخلاف و أكثر من دائرة للشقاق وأكثر من مستوى للتناحر والتباغض، فمن ألقى الحجر يا سادة في أنهارنا الصافية الجارية فعكر صفوها وهز استقرارها وجريانها؟!..سؤال ليست الإجابة عليه بالأمر الهين.
لكن يبقى إحسان الظن بالناس وتأويل كلامهم وأفعالهم تأويلاً شفافاً يتفق مع قواعد الإنصاف والصدق ، وإتباع سياسة درء الشكوك بالحقائق الدامغة، والتخلص من الأنانية المفجعة والذاتية المخيفة، وتنظيف القلوب من أدرانها وأمراضها.. يبقى كل ذلك علامات هادية على طريق الحياد والشفافية والصدق إذا اتصل الأمر بمحاولة فهم العلة الكامنة وراء كلام الآخرين على اختلاف صنوفهم، ثم يأتي دور الضمير كحكم داخلي نهائي على تصرفات الإنسان.
ولن ينفع القانون فينا رادعاً ****** حتى نكون ذوى ضمائر تردع .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق