الأحد، 26 فبراير 2012 - 16:09
كمال الجنزورى
لا أعرف متى بدأ المسلسل، لكنه بدأ ومارس جلد حياتنا بحلقاته المُملة.. حلقة عن طابور غاز البوتاجاز، وحلقة عن طابور رغيف العيش.. حلقتان جهنميتان تحرقان الأعصاب، وما تبقى فى عروقنا من دماء، وما تبقى فى وجداننا من كرامة!.
كُنا نعيش فى قـُرانا الريفية الجميلة اكتفاءً ذاتياً من الوقود ومن الخبز.. نجمع قش الأرز، وحطب القطن والذرة، فى بالات وحزم، ثم نرصها رصاً منتظماً على هيئة صفوف فوق أسطح منازلنا، أو على رؤوس حقولنا، ليكون ذلك هو وقودنا الذى نشعل به أفراننا ومواقدنا البسيطة التى صنعناها بأيدينا!.
القشُّ كان غازنا، ورغيفٌ نصنعه فى أفراننا الطينية كان خبزنا، ولم نمل من ذلك أبداً، ولم نشكو لأحد.. بل تكيفنا ورضينا بحياتنا الريفية البسيطة الخالية من المنغصات والمكدرات.
إلا أن الحكومة أبت إلا أن تخرجنا من تخلف القش والخبز البلدى إلى حضارة أسطوانة الغاز والخبز الآلى، بأن قالت: القش والحطب مساكن جالبة للفئران المخربة والثعابين السامة، وحَرْقه فى الأفران البلدى مُلوث للبيئة ومُعكر لصفو النسيم، ومَكمن لاندلاع الحرائق، وعليه فلا قش ولا أفران طينية ولا خبز بلدي، وإليكم الحل: أسطوانة غاز، وفرن آلى للخبز.. «يا فرحتى!».
تركنا ما تعودنا وما عشنا عليه سنين طويلة ومشينا وراء الحكومة لثقتنا العمياء فى بديلها المتحضر، حرقنا القش فى الحقل بدلاً من حرقه فى الفرن.. لربما كان الدخان غير الدخان، وهدمنا المواقد والأفران.. ثم رحنا ننتظر البوتاجاز والخبر الآلي.. « يا فرحتك يا خالى!».
قالت لنا الحكومة: عملاً بالنظام لابد من الاحتكام إلى قاعدة الطابور أمام فرن العيش الآلي، ومستودع أسطوانات الغاز.. قلنا لا ضير من الطابور ما دام فى سبيل المدنية والعيشة «الهنية».. وقفنا، ولم نكن نعلم أن الطابور سيتمدد كلما أشرقت شمس أو جاء ليل، ولم نكن نعلم أن «المحاسيب» لا طابور لهم ولا هم يحزنون.. يتسللون فيأخذون ما يريدون.. حتى جاء الوقت الذى شعرنا فيه بنشوة النجاح حين الفوز بأنبوبة غاز أو بعشرة أرغفة من الخبز.. بل حمدنا الله وسجدنا له شكراً على النعمة!.
الآن، لا طابور.. انتهى وقت إراقة الكرامة، وجاء وقت إراقة الدم.. من ندرة الغاز تقاتل الناس فمات بعضهم وسجن الآخرون.. من ندرة الغاز بحثنا عن «واسطة» لنظفر بأنبوبة بثلاثين جنيهاً.. من ندرة الغاز وقفنا على الطرقات فى عزِّ البرد لننتظر الأنابيب.. من ندرة الغاز فكرنا بل عدنا إلى جمع الخشب استعداداً للعودة للمواقد والأفران!.
يا حكومة: أنت من عودنا، وللاحتكار أسلمنا، وللجشع رمانا.. «نروح فين يا حكومة؟؟!».
من فضلك انصحينا بالعودة إلى ماضينا...!!!
-
المقال منشور باليوم السابع وهذا رابطه
كُنا نعيش فى قـُرانا الريفية الجميلة اكتفاءً ذاتياً من الوقود ومن الخبز.. نجمع قش الأرز، وحطب القطن والذرة، فى بالات وحزم، ثم نرصها رصاً منتظماً على هيئة صفوف فوق أسطح منازلنا، أو على رؤوس حقولنا، ليكون ذلك هو وقودنا الذى نشعل به أفراننا ومواقدنا البسيطة التى صنعناها بأيدينا!.
القشُّ كان غازنا، ورغيفٌ نصنعه فى أفراننا الطينية كان خبزنا، ولم نمل من ذلك أبداً، ولم نشكو لأحد.. بل تكيفنا ورضينا بحياتنا الريفية البسيطة الخالية من المنغصات والمكدرات.
إلا أن الحكومة أبت إلا أن تخرجنا من تخلف القش والخبز البلدى إلى حضارة أسطوانة الغاز والخبز الآلى، بأن قالت: القش والحطب مساكن جالبة للفئران المخربة والثعابين السامة، وحَرْقه فى الأفران البلدى مُلوث للبيئة ومُعكر لصفو النسيم، ومَكمن لاندلاع الحرائق، وعليه فلا قش ولا أفران طينية ولا خبز بلدي، وإليكم الحل: أسطوانة غاز، وفرن آلى للخبز.. «يا فرحتى!».
تركنا ما تعودنا وما عشنا عليه سنين طويلة ومشينا وراء الحكومة لثقتنا العمياء فى بديلها المتحضر، حرقنا القش فى الحقل بدلاً من حرقه فى الفرن.. لربما كان الدخان غير الدخان، وهدمنا المواقد والأفران.. ثم رحنا ننتظر البوتاجاز والخبر الآلي.. « يا فرحتك يا خالى!».
قالت لنا الحكومة: عملاً بالنظام لابد من الاحتكام إلى قاعدة الطابور أمام فرن العيش الآلي، ومستودع أسطوانات الغاز.. قلنا لا ضير من الطابور ما دام فى سبيل المدنية والعيشة «الهنية».. وقفنا، ولم نكن نعلم أن الطابور سيتمدد كلما أشرقت شمس أو جاء ليل، ولم نكن نعلم أن «المحاسيب» لا طابور لهم ولا هم يحزنون.. يتسللون فيأخذون ما يريدون.. حتى جاء الوقت الذى شعرنا فيه بنشوة النجاح حين الفوز بأنبوبة غاز أو بعشرة أرغفة من الخبز.. بل حمدنا الله وسجدنا له شكراً على النعمة!.
الآن، لا طابور.. انتهى وقت إراقة الكرامة، وجاء وقت إراقة الدم.. من ندرة الغاز تقاتل الناس فمات بعضهم وسجن الآخرون.. من ندرة الغاز بحثنا عن «واسطة» لنظفر بأنبوبة بثلاثين جنيهاً.. من ندرة الغاز وقفنا على الطرقات فى عزِّ البرد لننتظر الأنابيب.. من ندرة الغاز فكرنا بل عدنا إلى جمع الخشب استعداداً للعودة للمواقد والأفران!.
يا حكومة: أنت من عودنا، وللاحتكار أسلمنا، وللجشع رمانا.. «نروح فين يا حكومة؟؟!».
من فضلك انصحينا بالعودة إلى ماضينا...!!!
-
المقال منشور باليوم السابع وهذا رابطه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق