أنا مُعارضٌ.. لماذا؟!
بشكل لافت.. اتسعت رقعة النقد من أجل النقد في أوساطتنا الثقافية والفكرية، وذلك على خلفية الفهم الأحادي للحرية وحق الاختلاف، ذلك أن النظرة الجمعية لحق النقد تبدو متوارية خلف مصالح شخصية أو فئوية، جلها يكمن في طلب الشهرة على طريقة «خالف تُعْرَف»!.
وما انتشارُ حَلْبَاتِ العراك والجدال والثرثرة عبر فضائيات ومنتديات وصحف، إلا تجسيد حيٌ لصراع محموم نحو إثبات «الأنا» بغض النظر عن نزاهة الوسيلة، حتى بدا الأمر وكأنه حربٌ تباح فيها كل الأسلحة، وإلا فما معنى أن تقدح وتفضح بلا مبرر، أو تطعن وتلعن بلا هدف؟!.
ثمَّ يزداد الأمر سوءاً حين يُعلن بعض المعترضين، أو من يُسَمّونَ أنفسهم نُقَّاداً، أن ذلك إثراءٌ للحياة الفكرية، وتثبيتٌ لدعائم الحرية، وخَلقٌ جديدٌ لرؤىً عصرية، وفضح لجوانب سلبية، وهي كلماتُ حقٍ أريد بها باطل، خاصة وهي تصدر عن أشخاص، وتَحَزُّبَاتٍ، وفرق ترفض وتلفظ من يختلف معها وكأنها تملك الحقيقة المُطلقة!.
لا شك أن البشر لم يُخلقوا على هيئة واحدة، لا صورة ولا فكراً ولا منطقاً، وذلك لحكمة بالغة، نلتقط منها ما يتراءى لعقولنا القاصرة، إذ نختلف في طريقة التفكير، وفي أسلوب التناول والطرح، وفي النظرة إلى الأشياء عامة، حتى نتكامل ونتعاون، ويَسُدُّ بعضنا حاجة البعض الآخر من الرأي والمشورة والمناقشة، على أسس من الحب والاحترام والمساواة والموضوعية.
لكنَّ الأحداثَ التي تقعُ فوق منابر الرأي مسموعة كانت أو مقروءة أو مُتلفزة، تؤكد أننا نستخدم نعمة الاختلاف في الرأي استخداماً شخصياً أو فئوياً، وهو ما يؤدي إلى إعلاء نبرة الخلاف الشخصي أو الفئوي، بترك الفكرة محل الفحص والمحاورة نقداً وتحليلاً، إلى تناول شخص من أنتجها أو أبداها قدحاً وتجريحا، فينزلق الحوار إلى مستنقع التراشق بالتهم، فيخلق عداوة وتفرقاً، وقد كان جديراً بأن يوجد التحاماً وتنوعاً وإثراءً، خاصة في الجانب الفكري والثقافي على أقل تقدير!.
* مثالان:
(1) مِنَ الناس مَنْ أشهر قلماً، ثم قال عن نفسه كاتباً، ينقل إلى الناس الحقائق المجردة، ويُعلنُ عليهم الخفايا بكل شفافية، ويُبرزُ أمامهم الخطايا بكل نزاهة، ويَكشفُ لهم ستر المفسدين بلا تمييز، وهو في حقيقة الأمر لا يفعل شيئاً من ذلك، إذ نَشَرَ الأكاذيب بلا ضمير، ونثر الشائعات فوق رؤوس البشر بلا مسئولية، وأساءَ بقلمه إلى من لا يستحقوا الإساءة، وحَرَّف الكلام وشَخَّصَ مراميه على نحو أعوج، وذلك كله لحشد ردودٍ عشوائية أو انفعالية على مادته، طلباً للشهرة وذيوع الصيت، تحت مسمى السبق الصحفي، والسبق الصحفي بريء من ذلك براءة الذئب من دم بن يعقوب.
(2) ومنهم من يعتلى منبر الوعظ، ويرتدى ثوب الدين، ثم يقفز إلى أفكار الناس من خلال جماعة أو صحيفة أو فضائية من الفضائيات تحت مسمى تطوير الخطاب الديني أو إيقاظ الوعي الديني، وما أكثر النماذج التي أفرزتها وسائل الإعلام خلال العقد الأخير، بعضها أفاد الناس بتبيان صحيح الدين، وإيضاح قيمه الأساسية ومثله العليا، والدفع بهذا المفهوم في واقع الحياة ليكون سلوكاً لا شعارات، وأفعالاً لا مجرد كلمات، وذلك في إطار المنظومة الاجتماعية التي تظل جميع الأطياف الفكرية بلا تعصب أو تشنج أو دعوة إلى فرقة، لكن شريحة ليست بالهينة من هؤلاء شككت الناس في مأكلهم و مشربهم و ملبسهم، بل وفى عبادتهم وتقربهم إلى الله، بل وراحت تعزف على التشدد في فروع الدين، فَجَرَّتْ إلى ذلك شباباً غضاً إلى التحزب والتشرذم، فراحوا يحللون ويحرمون بلا أدنى خجل أو خوف، ولا أبسط من أن تسمع: «هذه بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»، فمن الذي عَلَّمَ هؤلاء الأشبال أن يصدروا أحكاماً بلا علم؟، إنها حالة اللاءات التي انتشرت في أمور الدين.
فالأول يعبر عن الشخصنة، والثاني يعبر عن الفئوية، وكلاهما استخدام سيء لحرية الرأي والتعبير، بدليل ما ترتب عليهما من نتائج سلبية أضرت وفرقت وحيرت.
* التبرير:
عَمَدَ بعضُ الذين يسبحون في الاتجاه المعاكس إلى استخدام الأسلوبين، بحجة «تحريك الماء الراكد»، دون أن يبدوا اهتماماً لما قد يترتب على توابلهم من آثار وتداعيات اجتماعية ونفسية، وفى إصرار مدهش منهم لم يدخروا أي جهد في التركيز وكثرة الثرثرة حول الجوانب السلبية، متذرعين بالسعي إلى تبيان الصحيح، أو كشف الحقيقة، أو متلثمين بمشاطرة الناس آلامهم ومحنهم، أو متحججين ببناء جسور الحوار الهادف، وهى المبررات التي تبدو في قمة الوجاهة، ولكن من قال إن الحديث عن السلبيات فقط سيحقق ذلك؟!.
* وفي النهاية:
إن العزف على أوتار أعصاب ومشاعر القراء، والمشاهدين، والمتابعين، عبر مواد معدة لهذا الهدف، أحدث ضيقاً في الصدور، وحيرة في النفوس، وغـُصة في الحلوق، وتمرداً على الواقع، وخلافاً بين الناس، وثرثرة بينهم بلا مغزى ولا معنى، وهى نتائج لا تتفق مطلقاً مع أساسيات الرسالة الإعلامية، التي يجب أن تنمى الوعي، وتبنى الثقافة، وترسخ قيم الانتماء للثوابت الدينية والوطنية والاجتماعية، وتؤصل لمعاني التواصل والترابط بين أفراد المجتمع، من خلال التأكيد على نقاط الالتقاء والتركيز على العوامل المشتركة.
ويبقي خير الكلام.. قال الله تعالي: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ سورة الأحزاب - الآية "70".
-----
رابط المقال:
www.aleqt.com/2010/09/05/article_438345.html
وما انتشارُ حَلْبَاتِ العراك والجدال والثرثرة عبر فضائيات ومنتديات وصحف، إلا تجسيد حيٌ لصراع محموم نحو إثبات «الأنا» بغض النظر عن نزاهة الوسيلة، حتى بدا الأمر وكأنه حربٌ تباح فيها كل الأسلحة، وإلا فما معنى أن تقدح وتفضح بلا مبرر، أو تطعن وتلعن بلا هدف؟!.
ثمَّ يزداد الأمر سوءاً حين يُعلن بعض المعترضين، أو من يُسَمّونَ أنفسهم نُقَّاداً، أن ذلك إثراءٌ للحياة الفكرية، وتثبيتٌ لدعائم الحرية، وخَلقٌ جديدٌ لرؤىً عصرية، وفضح لجوانب سلبية، وهي كلماتُ حقٍ أريد بها باطل، خاصة وهي تصدر عن أشخاص، وتَحَزُّبَاتٍ، وفرق ترفض وتلفظ من يختلف معها وكأنها تملك الحقيقة المُطلقة!.
لا شك أن البشر لم يُخلقوا على هيئة واحدة، لا صورة ولا فكراً ولا منطقاً، وذلك لحكمة بالغة، نلتقط منها ما يتراءى لعقولنا القاصرة، إذ نختلف في طريقة التفكير، وفي أسلوب التناول والطرح، وفي النظرة إلى الأشياء عامة، حتى نتكامل ونتعاون، ويَسُدُّ بعضنا حاجة البعض الآخر من الرأي والمشورة والمناقشة، على أسس من الحب والاحترام والمساواة والموضوعية.
لكنَّ الأحداثَ التي تقعُ فوق منابر الرأي مسموعة كانت أو مقروءة أو مُتلفزة، تؤكد أننا نستخدم نعمة الاختلاف في الرأي استخداماً شخصياً أو فئوياً، وهو ما يؤدي إلى إعلاء نبرة الخلاف الشخصي أو الفئوي، بترك الفكرة محل الفحص والمحاورة نقداً وتحليلاً، إلى تناول شخص من أنتجها أو أبداها قدحاً وتجريحا، فينزلق الحوار إلى مستنقع التراشق بالتهم، فيخلق عداوة وتفرقاً، وقد كان جديراً بأن يوجد التحاماً وتنوعاً وإثراءً، خاصة في الجانب الفكري والثقافي على أقل تقدير!.
* مثالان:
(1) مِنَ الناس مَنْ أشهر قلماً، ثم قال عن نفسه كاتباً، ينقل إلى الناس الحقائق المجردة، ويُعلنُ عليهم الخفايا بكل شفافية، ويُبرزُ أمامهم الخطايا بكل نزاهة، ويَكشفُ لهم ستر المفسدين بلا تمييز، وهو في حقيقة الأمر لا يفعل شيئاً من ذلك، إذ نَشَرَ الأكاذيب بلا ضمير، ونثر الشائعات فوق رؤوس البشر بلا مسئولية، وأساءَ بقلمه إلى من لا يستحقوا الإساءة، وحَرَّف الكلام وشَخَّصَ مراميه على نحو أعوج، وذلك كله لحشد ردودٍ عشوائية أو انفعالية على مادته، طلباً للشهرة وذيوع الصيت، تحت مسمى السبق الصحفي، والسبق الصحفي بريء من ذلك براءة الذئب من دم بن يعقوب.
(2) ومنهم من يعتلى منبر الوعظ، ويرتدى ثوب الدين، ثم يقفز إلى أفكار الناس من خلال جماعة أو صحيفة أو فضائية من الفضائيات تحت مسمى تطوير الخطاب الديني أو إيقاظ الوعي الديني، وما أكثر النماذج التي أفرزتها وسائل الإعلام خلال العقد الأخير، بعضها أفاد الناس بتبيان صحيح الدين، وإيضاح قيمه الأساسية ومثله العليا، والدفع بهذا المفهوم في واقع الحياة ليكون سلوكاً لا شعارات، وأفعالاً لا مجرد كلمات، وذلك في إطار المنظومة الاجتماعية التي تظل جميع الأطياف الفكرية بلا تعصب أو تشنج أو دعوة إلى فرقة، لكن شريحة ليست بالهينة من هؤلاء شككت الناس في مأكلهم و مشربهم و ملبسهم، بل وفى عبادتهم وتقربهم إلى الله، بل وراحت تعزف على التشدد في فروع الدين، فَجَرَّتْ إلى ذلك شباباً غضاً إلى التحزب والتشرذم، فراحوا يحللون ويحرمون بلا أدنى خجل أو خوف، ولا أبسط من أن تسمع: «هذه بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»، فمن الذي عَلَّمَ هؤلاء الأشبال أن يصدروا أحكاماً بلا علم؟، إنها حالة اللاءات التي انتشرت في أمور الدين.
فالأول يعبر عن الشخصنة، والثاني يعبر عن الفئوية، وكلاهما استخدام سيء لحرية الرأي والتعبير، بدليل ما ترتب عليهما من نتائج سلبية أضرت وفرقت وحيرت.
* التبرير:
عَمَدَ بعضُ الذين يسبحون في الاتجاه المعاكس إلى استخدام الأسلوبين، بحجة «تحريك الماء الراكد»، دون أن يبدوا اهتماماً لما قد يترتب على توابلهم من آثار وتداعيات اجتماعية ونفسية، وفى إصرار مدهش منهم لم يدخروا أي جهد في التركيز وكثرة الثرثرة حول الجوانب السلبية، متذرعين بالسعي إلى تبيان الصحيح، أو كشف الحقيقة، أو متلثمين بمشاطرة الناس آلامهم ومحنهم، أو متحججين ببناء جسور الحوار الهادف، وهى المبررات التي تبدو في قمة الوجاهة، ولكن من قال إن الحديث عن السلبيات فقط سيحقق ذلك؟!.
* وفي النهاية:
إن العزف على أوتار أعصاب ومشاعر القراء، والمشاهدين، والمتابعين، عبر مواد معدة لهذا الهدف، أحدث ضيقاً في الصدور، وحيرة في النفوس، وغـُصة في الحلوق، وتمرداً على الواقع، وخلافاً بين الناس، وثرثرة بينهم بلا مغزى ولا معنى، وهى نتائج لا تتفق مطلقاً مع أساسيات الرسالة الإعلامية، التي يجب أن تنمى الوعي، وتبنى الثقافة، وترسخ قيم الانتماء للثوابت الدينية والوطنية والاجتماعية، وتؤصل لمعاني التواصل والترابط بين أفراد المجتمع، من خلال التأكيد على نقاط الالتقاء والتركيز على العوامل المشتركة.
ويبقي خير الكلام.. قال الله تعالي: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ سورة الأحزاب - الآية "70".
-----
رابط المقال:
www.aleqt.com/2010/09/05/article_438345.html